الدكتور إلهام حمدان سيف الدولة تكتب.. الطاهر.. الراهب في محراب العلم.. وداعًا
دعاني الأستاذ الدكتور الطاهر مكي لأشارك في الكتاب التذكاري لصحيفة "دار العلوم" التي يرأسها بمناسبة بلوغه التسعين، وكم كانت سعادتي بهذا التكليف فهو بحق تشريف لي وسط كوكبة من كبار الأساتذة والعلماء من كافة الأقطار.. فكتبت شهادتي بكل الحب والإجلال.. لكني ما تصورت أن أرثيه وأودِّعه بقلمي الذي اعتاد الاحتفاء والفخر به والذي خط أكثر من دراسة لأهم أعماله مثل (طوق الحمامة)، و(السير والأخلاق) لابن حزم الأندلسي الذي حققهما وسلطت الضوء على جهوده المحمودة فيهما.
ترى.. هل يكفي انهمار سيول الدموع حُزنًا على القامات والهامات، والأشجار الوارفة الظلال في حياتنا الأدبية والثقافية والسياسية والاجتماعية والفنية التي تختطفها براثن الموت؛ لتتركنا تحت هجير شمس الحياة اللافحة؛ بعدما كنا نتدثرـ بكل الفخر ـ بعباءتهم الفضفاضة طلبًا للدفء والأمان للعقول والأرواح؟.. بالتأكيد.. لا ولن تكفي! ولكن تبقي سيرتهم العطِرة للأجيال؛ ويبقي إنتاجهم الفكري والعقلي عزاءً لنا ومرجعًا على مدى الأيام منهلاً وينبوعًا صافيًا لكل عطشى العلم والقدوة الحسنة.
فكيف أنسى تشجيعه لي واهتمامه بقراءة كل ما أكتبه من مقالات ودراسات فيثني عليّ حينًا، ولا يبخل علي بملاحظاته القيمة أحيانًا أخرى وإن كانت طفيفة؛ لكونه يصبو دومًا إلى الإتقان وكنت أنتظر بشغف كتابته لمقدمة كتابي الجديد كما وعدني، لكن القدر حرمني من هذا التتويج ولم يمهله ليفي به.
ياإلهي كم أفدت من علمه الغزير وخبرته الواسعة في الحياة فمثله لا يُنسى ماحيينا طلابا وأساتذة ومريدين. فالمبدعون لا يرحلون بل يغيرون عناوينهم، وها هو قد رحل عن عالمنا بتغيير عنوانه.. هرمنا الثقافي العلامة الجليل العملاق وأستاذ الأجيال الدكتور الطاهر مكي؛ لنودع قرنًا من الزمان بكل ما فيه من أحداثٍ موَّارة؛ ومواقف هي قمة المشاعر المرهفة والإنسانية الحقة.
ولكن قبل الولوج إلى عالم العملاق وعضو مجمع اللغة العربية والناقد الكبير: اخلع نعليك وأنت تحاول الدخول إلى محراب هذا القديس والعلامة القدير الشهير فى الأوساط الأدبية والعلمية وعوالم الترجمة وساحات دراسات الأدب الأندلسى والنقد الأدبي بنبوغه النادر.
ولعل من الإنصاف له أن نتلامس مع وتر من أوتار معزوفة سيمفونية حياته، وباعتباره مواطناً مصرياً يعيش ويتعايش مع موار الأحداث المجتمعية والسياسية فى الشارع السياسى المصري فى مطلع شبابه.. حين اقترب ممن كان يتوسَّم فيهم أنهم من دعاة الاصلاح السياسي والمجتمعي؛ فكتب عنهم ببعض الإسهاب وعن مواقفهم ـ آنذاك ـ تجاه الحراك السياسى، قبل أن يكتشف بالسليقة والمعايشة أنهم على غير ما كانت تعكسه له الظنون، فقام بكل شجاعة العالم الأثير والكبير مقامًا وعلمًا بالتنويه عن هذا دون تجريح أو تشف ٍ لمعتقداته القديمة فى وقت من الأوقات.
ومن حسن الطالع أن تكون له نظرة استشرافية للمستقبل السياسى لهؤلاء . ومن آرائه أنه يقع على المثقفين العبء الأكبر للقيام بدورهم الفاعل وليكونوا مصدرًا للتنوير المستمر لنخرج من هذا النفق الذى وضعنا أنفسنا فيه بتواكلنا، لتعود لمصر الريادة والقيادة، وهذا لا يتأتى إلا إذا لم ينسق (المثقف) الذي خرج إلى الحياة العملية وهو يحمل كل الآمال فى تغيير المجتمع إلى الأفضل.. فيتلقفه من يريدون إطفاء جذوة حماسه من المنتفعين داخليًا وخارجيًا، ويسعون إلى أن (يقتلوه شبعًا) ويغرونه بالمناصب ليحيد عن الطريق السليم والأمثل الذى يجب أن يكون عليه لاستفادة المجتمع من علمه . وأنا أسوق هذا الجانب من جوانب حياته للتدليل على ضرورة مراجعة النفس وبشجاعة فى بعض الآراء التى قد تتغير بتغير الطقس والمناخ فى المجتمع؛ وبكل الجرأة ودون مهابة أو خوف من انتقاد لاذع يأتي من هنا أو هناك، والعجيب أن تأتي رؤيته بكل المصداقية وكأنه كان يطل على المستقبل بالعين الواعية الثاقبة، وليظل عملاقًا وسط العمالقة في زمن يتعطش الى وجود أمثاله من الشرفاء ونعدهم قاطرة الوطن إلى المستقبل الباهر والمشرف ليتبوأ مكانه الأمجد كما عهدناه فى كل العصور.
وليس من قبيل التلصص أو التدخل فى شأن المشاعر القلبية له؛ فقد عشق الشعر وسبح بمهارة فى عوالمه متذوقـًا وشارحًا ومحللاً وناقدًا، والشعر هو المشاعر التى تأتى من صميم الروح.. ترى هل لم يؤثر (الشعر) فى مشاعره والشعر وليد كل خلجات الإحساس الإنساني؟ بالتأكيد.. فإن هذا الفارس فى شبابه الغض كانت له صولات وجولات مع الجمال الأنثوى الأندلسي الرائع والمعجون بالجينات الوراثية من القبائل العربية نتيجة المصاهرة والالتحام بالمجتمعات الأندلسية .. فيقول عن تلك المشاعر إنه التقى بالفعل بمن اهتزت لها الجوانح والمشاعر؛ ولكن يبدو أن كل قصة حب حقيقية تنتهي بمواقف درامية أشبه بقصص وحكايات السينما، كما تواترت إلينا قصص الحب بين عنتر وعبلة وقيس ولبنى وقيس وليلى وغيرهم..فانتهت قصة حبه بدخول الحبيبة إلى الدير بعد رفض عائلتها تزويجها إياه .. ويدخل هو راهبًا فى محراب العلم والإبداع، ويمنح البشرية أبناءً من (كتب) ستظل على مدى العصور نبراسًا لكل طالبي العلم والعلوم ،وهي أكثر من أن تحصى هنا إلى جانب ما حصده من جوائز وتكريمات .. ولتلعب الأقدار لعبتها الأبدية ربما ليظل اسمه : (الطاهر) اسمًا على مسمى ورمزًا صادقـًا على مسيرة حياته الطاهرة صدقًـا فى الحب و فى الإبداع، وفيما صنعته المقادير حين منح اسمه المجرد والمطبوع فى شهادة ميلاده (طاهر) منذ الصغر (ألف ولام) التعريف .. ليصبح اسمه (الطاهر) وكأنه كان يستشرف ما ستؤول إليه حياته فريدًا وحيدًا دون النيل بالحظوة فى اقتسام الحياة مع من اختارها قلبه فى مطلع الشباب . نعزي الثقافة المصرية والعربية برحيل عاشق الأندلس.. فقد أغلق محرابه قبل يومين من وفاته. . ومض!.
** أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون