الثلاثاء, 21 فبراير 2017 10:24 صباحًا 0 744 0
الدكتورة إلهام سيف الدولة حمدان تكتب: عن أزمة الدواء !
الدكتورة إلهام سيف الدولة حمدان تكتب: عن أزمة الدواء !

** الدكتورة إلهام سيف الدولة حمدان تكتب: عن أزمة الدواء !

من الملفت للنظر، وأنت تسير في شوارع قاهرة المحروسة، وبخاصة في شارع الهرم؛ أن تجد لافتات إعلانات كبيرة عن "ساحة انتظار سيارات"؛ وساعة الانتظار بـ"جنيه".. يا بلاش!! ولكنك إذا تأملت جيدًا أين توضع هذه الإعلانات، فسيصيبك الذهول أن تلك الساحات هي الساحة الخارجية لشركات ومصانع للدواء كانت تابعة للمغفور له القطاع العام؛ وقد أغلقت بواباتها بالسلاسل الحديدية و"الضبة والمفتاح"، وتوقف هدير ماكينات خطوط إنتاج الدواء الشعبي المدعم لمرضى فقراء الوطن.. وما أكثرهم؛ وتم تسريح العمالة المدربة، وموظفيها إلى عرض الشارع، ومقاعد المقاهي؛ بعد مداعبة أحلامهم بامتلاك أرقام لا تتعدي الثلاثين وعلى يمينها الثلاث أصفار الشهيرة، ليكتشفوا بعد أقل من شهر؛ أن هذه الأحلام قد تبخرت وذهبت أدراج الرياح.

تلك هي المأساة والتراجيديا التي نعيشها بعد المؤامرة الكونية بتصفية القطاع العام في كل القطاعات الإنتاجية، وأصبحت "الدولة" رهينة في يد القطاع الخاص، وجشع رءوس الأموال؛ ولم تفرز مصر المحروسة رأسمالية وطنية مستنيرة من أمثال رجل الصناعة الفذ "طلعت حرب"، الذي تحدى الاستعمار الإنجليزي في عنفوانه؛ وأقام أعظم قلاع مصانع المنسوجات بالمحلة الكبرى، وأنشأ ستديو مصر لصناعة السينما كأول دولة في أفريقيا، ويقوم بتمويل تلك المشروعات العملاقة بنك مصر؛ هذا الصرح العظيم الذي يُعد قلعة الاقتصاد إلى يومنا هذا.

ومما لاشك فيه أننا نلمس ـ بشدَّة ـ أن هناك أزمة دواء في مصر؛ وهذه الأزمة ترجع إلى إخفاق السادة المسئولين في دراسة الآثار السلبية المترتبة على القرارات التي يتخذونها؛ لمجابهتها بالإجراءات الواجبة لتلافي حدوثها؛ وهذا "داء" القائمين على صناعة "الدواء"! و قيام الدولة بتحريرسعر الصرف للمجني عليه الشهير بـ"الجنيه"؛ مع معرفتنا التامة بأن صناعة "دواء الغلابة " مرهونة بالسيد "الدولار"؛ فهو المقابل النقدي للمواد الخام التي تدخل في صناعة الدواء المستوردة من بلاد العم سام أو الدول الأوربية؛ والمثير للدهشة أننا نصدر إلى هذه الدول ـ بملاليم ـ المادة الخام للنباتات الطبية والعطرية التي تنبت في أراضينا وصحارينا؛ لتعود إلينا في العبوات الفخيمة بعد التصنيع؛ وبالأثمان الباهظة التي يفرضونها، وهوالسلوك نفسه الذي كان يحدث مع القطن المصري الخام "طويل التيلة"؛ والذي قامت عليه صناعة المنسوجات في مانشستر عاصمة الصناعة بانجلترا؛ واستمدت تلك المدينة شهرتها على تصنيع القطن المصري طويل التيلة، وتصدِّر للمصريين الإحساس بقلة الحيلة!.

 وصحيح أنه يوجد في مصر ما يسمى بنظام "التأمين الصحي"؛ ولكنه لا يستهدف إلا فئة معينة مثل موظفي الحكومة وقطاع الأعمال وطلبة المدارس؛ بينما يظل قطاع كبير من المواطنين بعيدين تمامًا عن مظلة هذا النظام ومحرومين من مميزاته على ضآلتها؛ والحل يكمن في ضرورة إقرار العلاج المجاني لكافة فئات الشعب من عمال القطاع الخاص والفلاحين بالمستشفيات الحكومية؛ وتوفير دعم أكبر لها بالأجهزة الحديثة التي تشتمل على غرف العمليات وأجهزة غسيل الكُلى وأجهزة الأشعة المقطعية، والعادية، وليس هذا فحسب، بل يجب العمل على توفير الأدوية بصيدلياتها مجانًا أو بأسعار رمزية في متناول الفقراء ومحدودي الدخل. ونتعشم أن يكون للدولة اليد الطولى في التحكم في أسعار الدواء؛ إما بالرقابة المشددة على المستورد منه؛ بتحديد"هامش الربح" المفترض والعادل لكلا الطرفين: المريض والصيدلي؛ أو بالقرارات الجريئة بتأميم مصانع الدواء، وإعادتها إلى أحضان الدولة لإدارتها بالنظم الحاسمة؛ مع حفظ حقوق من قاموا بشرائها؛ وحفظ ماء الوجه للمريض الذي يشرف على الموت لأنه لا يملك ثمن الدواء.

ولأنها مصر المعطاءة العظيمة بقلوب أبنائها الشرفاء؛ كان جميلاً أن نرى على صفحات التواصل الاجتماعي مبادرة رائعة من لفيف من الصيادلة النجباء؛ يعرضون بدائل الأدوية المستوردة، و"المثيل الأرخص رحمة بالمريض"؛ حتى تكون مرجعًا وثائقيًا ـ من المتخصصين ـ لمن لا يملك ثمن الدواء الأصلي أو المستورد.

وتلك هي النماذج المشرفة في وطننا، ولا بد لنا نعترف أنها الحلول المؤقتة والسريعة لمجابهة الأزمات الطارئة، ولكن يبقى الأمل في دور الدولة الفاعل الذي يؤمن بأحقية المواطن الذي يعيش على أرضها في العلاج، كما يحدث في الدول المتقدمة حتى لغير أبنائها من العاملين الموجودين فوق ربوعها.

نحن لا نطالب بالمستحيل، والبدائل كثيرة ومتشعبة، والتمويل لاستعادة هذه المشروعات العملاقة؛ قد يكون من حصيلة سن القوانين وتفعيلها الفوري؛ في فرض الضرائب التصاعدية على رءوس الأموال التي توحشت في غفلة من الزمن، وعُدنا إلى عصور سيطرة رأس المال على صاحب القرار، وهو ما قامت من أجله كل الثورات في التاريخ المصري القديم والحديث.

فالأيدي العاملة المريضة.. لن تنتج! بل ستكون عالة على المجتمع والدولة؛ وستكلفها أضعافًا مضاعفة، فهي عاجزة عن الإنتاج وفي الوقت نفسه ستكون في حاجة ماسة إلى الدواء الذي يحافظ على أنفاسها لمجرد الحياة ! إننا ننتظر عودة "الدواء المصري" لتمتلىء به أرفف صيدليات مصر، والتي تحولت إلى مراكزمتخصصة في توزيع "مستحضرات التجميل"، والعطورالعالمية؛ لتخدم شريحة صغيرة من المجتمع؛ وللعجب.. أصبح"الدواء" هو السلعة التكميلية داخل هذه المراكز التي انتشرت في كل الأنحاء؛ فما أحوجنا إلى النظرة السريعة للمرضى؛ قبل أن تستفحل الأمراض وتنتشر في جسد المجتمع لعجزه عن المواجهة بسيف العلاج البتار؛ وبالأثمان التي تكون في متناول الجميع.. غنيُّه وفقيرُه بلا استثناء.

** أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر
إلهام سيف الدولة حمدان أزمة الدواء

محرر الخبر

1 admin
محرر

شارك وارسل تعليق