عندما زارت السيدة كريستين لاجارد، مديرة صندوق النقد الدولي السابقة المغرب في ٢٠١٨ للمشاركة في مؤتمر بعنوان «الازدهار للجميع: تعزيز فرص العمل والنمو الشامل في العالم العربي» أشارت إلى أن السنوات الخمسة القادمة ستشهد دخول سبعة وعشرين مليون شاب عربي إلى سوق العمل.. وعن كيفية حصولهم على الوظائف أشارت بمنتهى الصراحة إلى أن 60 بالمائة من المواطنين العرب يعتمدون على الواسطة لإيجاد فرص عمل.
وفي منطقة ساخطة مثل منطقتنا قد تصل نسبة البطالة فيها إلى 25 بالمائة من إجمالي قوة العمل العربية، فإن اللجوء إلى الواسطة للحصول على فرصة عمل لن يزيد الساخطين إلا سخطاً.. فالواسطة في صلبها استجداء يجرح الكبرياء للوصول إلى حق كان يجب أن يكون مضموناً.. وهي لأكثر من سبب أحد مغذيات السخط في المجتمعات الساخطة أصلاً.. فهي مدمرة للفرد حتى لو بدا أنه يستفيد منها لحظياً.. كما أنها متلفة للوطن حتى لو أن كل من فيه يلجؤون إليها.
على مستوى الفرد يحط اللجوء إلى الواسطة كثيراً من الكرامة ويهدر احترام الذات.. فالواسطة تدفع أحاد الناس إلى التوسل وتملق الآخرين.. تكسر عين من يطلبها وتخجله وهو يلح ويستجدي.. تضع على كاهل من يلجأ إليها جمائل وأفضال عليه أن يسددها للآخرين يوماً.. تؤلم صاحب كل ضمير يقظ وتجرح ذوي الحياء المتعففين عن السؤال لو هم اضطروا إلى طلبها.. تفتح الباب لسوء الظن في كل من يجد عملاً فتجعله ملاحقاً بالقيل والقال وأنه حصل على عمل لأنه مسنود.. تدفع الفرد إلى الكسل وعدم الاهتمام بتطوير كفاءاته والاعتماد بالأساس على العلاقات وليس على القدرات.
لكن ضرر الواسطة للأوطان أشد.. فهي
تكرس الفساد وتضرب فكرة القانون في الصميم.. تُلغي الشروط الموضوعية المطلوبة للعمل وتستبدلها بعلاقات مبنية على المحاباة والمحسوبية والمنفعة الشخصية.. وتزيد خطورة الواسطة عندما تتحول إلى قناعة راسخة بين الناس وثقافة كاملة.. وقتها تتحول إلى وباء ينهش المجتمع ويُهدد سلامته.. وحينما أشارت مديرة صندوق النقد الدولي السابقة إلى أن 60 بالمائة من العرب يعتقدون أن الواسطة هي الباب الوحيد المتاح لهم للحصول على وظيفة، فإننا نكون بالفعل أمام ما يشبه الوباء. فمعنى كلامها أنه لو افترضنا ان سبعة وعشرين مليون شاب سيدخلون سوق العمل في السنوات الخمس القادمة فإن 16 مليوناً ومائتي ألف شاب منهم سيعتمدون على الواسطة.. ويعني أيضاً أن أكثر هؤلاء سيشغلون مواقعهم نتيجة انحراف في قواعد التوظيف وليس استناداً إلى أي اعتبارات تتصل بالنزاهة والقدرة والإمكانية.. ولأن الواسطة مرض عربي قديم، فإن نسبة الستين بالمائة التي ذكرتها «لاجارد» قد تعني أن من يشغلون وظائفهم بالواسطة من إجمالي قوة العمل العربية في 2017 والمقدرة بحوالي 130 مليوناً لن يقل عن 78 مليوناً، وهو رقم مفزع، وقد يزيد على هذا بكثير على ضوء تقرير صندوق النقد العربي الصادر في ابريل ٢٠١٩ والذي تحدث عن الحاجة الى خلق ٦٠ مليون وظيفة جديدة في المنطقة خلال بضع سنوات.
ويدل انتشار هذا الوباء الجماعي على تحول الظلم للأسف إلى ثقافة بين الناس.. فالواسطة ظلم للذات وللآخرين وللوطن بأكمله.. فهي تعلي من قدر الرجل غير المناسب وتقهر الرجل المناسب.. تتجاهل القانون وتجعل الغطرسة باباً للتوظيف. تحول الضوابط إلى أمور شكلية.. تسند الوظائف لمن لا يستحقها.. وليت اللجوء إلى الواسطة يقف عند البحث عن وظيفة وإنما أصبحت في كثير من الأحيان هي السبيل للحصول حتى على أبسط الحقوق مثل العلاج أو إنجاز معاملة إدارية أو إنهاء خدمة في دائرة حكومية.. الواسطة متى تغلغلت إلا وتقتل في الناس روح الحماس وتضعف الإنتاجية وتؤخر التنمية.. فالمسنود بواسطة غالباً ما يشعر أنه صاحب استحقاق من حقه أن يتقاضى راتبه حتى إن لم ينتج.. فضلاً عن ذلك فانتشار الواسطة كثيراً ما دفع بالمظلومين إما إلى الهجرة أو إلى الغرق في الفساد.. الواسطة تقضي على المواهب والكفاءات وتخلق روحاً شللية تعمق العصبيات بالذات في المجتمعات ذات التكوين القبلي والعشائري.
إن الواسطة علاقة مريبة بين ثلاثة أطراف.. طرف لديه مصلحة لا يستطيع أن ينجزها بنفسه.. وطرف ثان مؤتمن على وظائف أو خدمات لكنه يدخرها لمن يجاملهم ويجاملونه.. وطرف ثالث يعمل كوسيط بين الاثنين.. وتكشف علاقة الأطراف الثلاثة عن مدى تراجع عدالة التوزيع، وضيق أفق العمل وغياب المحاسبة وضعف الرقابة وتهميش القانون.. والأخطر من كل ذلك أنها تقطع بتفشي ثقافة أخلاقية متراخية مع الخطأ ومتناقضة مع نفسها. ثقافة تلعن الواسطة ثم تعتمد عليها.. تشكو منها وتلجأ إليها.. ومثل هذه الازدواجية وذلك النفاق ليسا إلا من سمات المجتمعات الساخطة التي تشكو حالها ولا تعالج أحوالها.