العادات والتقاليد وتأثيرها فى وعى الشعوب بقلم الدكتورة سامية الحريرى
عندما تتحول الثقافة إلى مخزون من الوعى ويتحول الوعي إلى سلوك ونمط حياة، تصبح الثقافة ذات قيمة عالية تشكل حالات المجتمع النفسية والاجتماعية، وقد يُصبح الأشخاص أكثر تذوقاً للجمال أو العكس وقد يصبح الفرد متسامحا أو عدوانيًا، وقد تصبح الحياة أفضل أو تتحول للأسوأ.
العادات والتقاليد هي موروث اجتماعي قْيَمي تراكمي عبر عشرات ومئات السنيين تؤثر فى ثقافة المجتمع، وتتأثر به وبالتالي تؤثر في نموه وتطوره.
تُعرف العادات لغويا أنّها نمط من السلوك أو التصرف المعتاد الذى يتمّ تكراره عدة مرات دون فهم أو مناقشه أو حتى مراجعة وقد يكون هذا السلوك إيجابي يأخذ بخبرات السابقين، والاستفادة منها كإكرام الضيف وسقاية الحجيج ورعايتهم ومساعدة المحتاج الوقوف بجانب أهل المتوفى مثلا ومجاملتهم أو إطعام المعزين، وهى من العادات التى تحث على التواصل و الترابط الاجتماعي ولها مردود جيد فى التخفيف على أهل المتوفى حيث يشعرون بتعاطف ومحبه الأهل والجيران ما يخفف من ألم المصاب وفقد العزيز.
أمّا التقالِيد فهي عقائد وأعمال متوارَثة يرثها الخلف عن السلف، وسميت تقاليد لأنها تعتبر تقليد لما قام به السلف من أعمال لذلك يحاول الآباء زراعة العادات والتقاليد لأولادهم وكأنها جزء لا يتجزأ من هويتهم وشخصيتهم حتى يكبروا وهم متأقلمين معها، فالمجتمع الشرقي من شدة اهتمامه بالعادات لا يرى الاختلاف والتنوع ميزة بل يراها خلاف ومشاكل.
وكما أن هناك عادات وتقاليد ايجابيه فيوجد على الجانب الآخر من العادات و التقاليد ما هو سىء ويؤثر على المجتمعات تأثيرا سلبيا ككراهة إنجاب الاناث، وتفضيل الذكور عليهم، وأيضا عادة التعصب الرياضى والفرز والتقييم بناءً على العرق أو العقيدة، وعادة التحرج أو الضيق عند ذكر اسم المرأة فى المجتمعات العربية، وعادة عدم احترام الوقت والسهر، وإضاعة الوقت على "الكافيهات" تلك العادات السيئة التى تضر بالمجتمع، وتتنافى مع تعاليم الأديان، و تفسد على المرء حياته ومعيشته، وإذا بحثنا عن قيمة هذه العادات والتقاليد وسر تمسك الأجيال بها لتوصلنا لأسباب أهمها تطلع المجتمعات للحفاظ على الهوية، وسد الفجوة بين الأجيال، والحفاظ على الذكريات، والاعتقاد بأن من ليس له ماض ليس له حاضر أو مستقبل.
وتمثل العادات والتقاليد قواعد راسخة لكثير من المجتمعات لدرجه أنه من يخالف تلك العادات قد يتعرض للوم أو للعقاب وللحساب المجتمعي بحُجة خروجه عما هوَ مُتعارف عليه كموروث مقدس يجب عدم المساس به.
إنَّ العادات والتقاليد تمثل أصولا واعرافا في كُل بلد من بُلدان العالم، فنجد لكل بلد عادات فى أمور الزواج وتقاليد فى المأكل والملبس وغيرها، و قد يفرض على كُل شخص أن يكونَ مُلِمّاً بها ولا يبتعد عنها بقدر الإمكان، وقد يعتقد الكثيرين أن التمسك بالعادات و التقاليد شيء حسن، وأن العمل على مناقشتها أو محاولة التفكير فيها هو أمر سلبي، ولا يجب الخوض فيه حتى وإن لم يتفق مع العقل أو المنطق أو تعاليم الأديان ما قد يؤدى إلى التحجر، وعدم التطور أو الجمود الفكري.
وقد يتساءل البعض من هو الذي وضع هذه العادات التي تحيي الأموات، وتميت الأحياء؟! وهل يصبح التقليد مدمرًا في بعض الأحيان؟ فعادةً ما تميل الشعوب بالاقتداء بالمشاهير والأغنياء حيث أن كبار الأقوام عند العرب يمارسون في طقوسهم ومناسباتهم البذخ والمباهاة والتبذير، فأصبح غير القادر يحاول تقليدهم ولا يستطيع أن يظهر بمستوى أقل فيظل يحاول الوصول لتلك المرحلة، وهذا يفتح باب آخر كبير يتمثل فى ديون وقروض وسرقات للحصول على المال بأي طريقة لمجرد التقليد، ولكى يرسم لنفسه صورة تجعله محترمًا مبجلًا فى مجتمعه .
وكل من يحاول الخروج عن هذا التقليد يُنعت بأنه أقل مستوى وأقل شأن فحلت للمباهاة والتفاخر محل العلم والفكر وذهب عمر الانسان و مجهوده سدى وغابت الأخلاق والعادات الحسنة واختفى النفع العام وأصبح المقياس هو الملبس والمظهر الخداع.
ومن هنا قد تصبح العادة والتقليد وسيلة للقضاء على الحياة الصحية للإنسان والهدف الذى خلق من اجله.
وفى بلاد الشرق الاوسط توجد عادات قد تخالف الشرع كزواج القاصرات، وزواج الفتيات، أيضا دون رضاهم وبعض العادات في الاعياد تتسبب في ارهاق الاسرة اقتصاديا وايضا قد تسببت العادات في سحق الشباب العربي بسبب المغالاة في المهور وتكاليف الزواج وفى الآونة الأخيرة ايضا نما في بلادنا عادات تجعل تفكير الشاب الدائم في الزواج وانهاء مراحل تعليم وانه اذا وصل الى تحقيق هذين الحلمين فقد وصل قمة المنتهى فيقضى عمره كله لاهثا وراء وثيقة التخرج وتجميع الاموال لأنهاء عملية الزواج وبذلك يتم ابعاده عن التطوير والابداع والتفكير وكل هذا عن طريق اللعب على وتر العادات والتقاليد التي كان لها عظيم الاثر في ازهاق طاقة الشباب الضرورية لبناء الأمم والحضارات.
جميل أن نستفيد بخبرات السابقين فى الحياة ولكن الأجمل ألا نطبق خبراتهم إلا بعد إعمال العقل والتحقق من هذه الفائدة، لذلك وجب فحص تلك الخبرات، وإخضاعها للعقل, فما وافق العقل والشرائع يجب الأخذ به، و ما لا يوافق يتم التخلي عنه، وهذا أيضا هو امتثال لتطبيق أوامر الله ,أليس الله هو القائل "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها".. وهى دعوة حتى لإعمال العقل فى كلمات الله لكى يصبح إيماننا عن فهم، ووعى، ويقين، وهذه ضرورة لتعميق المعنى والفائدة داخل النفس البشرية ما يدفعها للعمل الجاد، لتحقيق المنفعة والاصلاح العام.
أيضا قد اعتاد البعض على فعل العادة كنوع من الروتين بدون وعى والوعي ضرورة لأنه يعنى إدراك فوائد ومنافع ما نفعله، والوعي يزيل الرتابة ويساعد على التجديد والتطوير ما يزيد النشاط والإنتاجية للفرد، ولكن الكثير منا يخشى التغيير والتجديد ويعتبرونه مجازفة، فى حين أنه "إذا كان التغيير مجازفة محفوفة بالمخاطر فإن الروتين قاتل".
نعم! الروتين قاتل فهو يقتل الأمل فينا والطموح ويقتل فينا الاحساس الجمال حيث أن سر الجمال هو والاختلاف والتنوع، وسر التميز والإبداع هو التجديد والابتكار وعدم التقليد.
إن التقليد هو عدو الابداع وهو ذو فائدة محدودة، وفيه تعلم واكتساب بعض المهارات التى تعين على الحياة، ولكن لا يجب اتباع التقليد فى جميع مناح الحياة لان ذلك يؤدى إلى الغاء العقل والفكر .
إن التفكير والتأمل ضرورة لأنه قد يقود لقرار صائب أو لعمل ابداعى يؤدى الى التطور والتقدم ولا عيب فى أن يكون الانسان مختلفا عن غيره ذو منهج خاص، وطبائع متميزة، فإعمال العقل هو الدافع نحو الأمام، وهو البعد عن كل ما هو معتاد ومألوف ذلك المألوف الذى يصنع منا نسخ متشابهة ومحدودة ونمطية ويقضى على المهارات ويحجمها .
وفى التقليد تبعية مطلقة، والنقل بدون روية أو تعقل يوضح مدى خطورة التقليد إذا انتقل من دائرة المحسوسات إلى دائرة العقائد والمذاهب ؛ ثم تزداد الخطورة إذا تسرب إلي مناهج التربية والنُّظُمِ والتشريعات، وفي هذه الحالة يكون المقلد تابعا قد مُسِخَت شخصيته سواء كان فردا او جماعه وبذلك يتخلف فكر الامة ومنهجها وتتوقف وكأنها شخصا ظل نظره شاخصا إلى الخلف أعواما وأحقابا.
التقليد مرض إذا أصاب الأمم إذن فقدت ثقتها بنفسها، وفقدت هويتها واصبحت سجينة لتلك العادات والتقاليد فى حين أن الإنسان خُلِق حر بموجب القانون الكوني والقانون الإنساني.
وقد حثت الاديان على عدم التقليد بدون إعمال العقل، فالإسلام قد حفظ العقل من خلال تحريره من مفاسد التقليد الأعمى، وكانت الدعوة التحذيرية من خطر الانحراف والخروج عن حيز ما خلق له، وتم وضع المنهج العقلانى للتفكير المنضبط الصحيح كلفظ اتباع الظن والأوهام والخرافة، كما حث القرآن الكريم على تحرير العقل من مفسدة التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأجداد من عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، وقد ذم الله تعالى تقليد الكفار لآبائهم وأجدادهم، و ما كانوا عليه من انحراف في العقيدة، وعدم إعمال عقولهم في الاستدلال على فساد ما كان آباؤهم عليه... قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} البقرة/170.
إن السعي اليوم والعمل على إعادة الروح إلى كل ما هو إيجابي في عاداتنا وتقاليدنا بما يتماشى ويتناسب مع متطلبات زماننا وهويتنا هذا حتى نحافظ على مجتمعنا من الانحدار إلى الاسفل في ظل الهجوم الشرس من قبل الأدوات الاستعمارية لبث كل ما هو سلبي وعدواني في ثقافتنا، حتى يصبح سلوك أساسى ومفهوم عام.
إن ما تشهده منطقتنا العربية من بث روح الكره والاقتتال والتناحر بين الشعوب تحت مسميات عجيبة، وأفكار جهنمية متطرفة ومتعصبة، وشرذمة الشعوب إلى كيانات وأحزاب لا تحمل فكرًا أو وعيًا هذا إلى جانب ظهور التعصب الطائفي ما هو إلا بدايات النهايات التي يفرضها الاستعماريون على موطننا الحبيب من خلال الغزو الثقافي، وترسيخ الأنانية عبر العادات والتقاليد الفاسدة التي يصدروها إلينا.
لذلك وجبت فلترة تلك العادات والتقاليد، ومن أجل ذلك وجب التفكر والتحليل والنقد لكل هذه العادات، فكل ما تعارَف عليه الناسُ واعتادوا وساروا عليه ولم يكن فيه حكم شرعي، فإنه يوزن بميزان المصلحة والنفع العام بعيدًا عن الأهواء والعصبيات، فإذا كانت العادة أو العرف يحقق للناس مصلحةً راجحةً أو يدفع عنهم مفسدة ظاهرة ويتفق مع العقل وطبيعة الحياة وجب الحفاظ عليه وما دون ذلك وجب تركه.
وجمعينا يعرف أن الخروج عن عادات وتقاليد المجتمع ليس بالشيء السهل بل يتطلب عزيمة قوية وإرادة لأن المجتمعات بطبيعتها تميل إلى الاستقرار وتحارب التغيير وتخشى عواقبه.
أيضا تعميق ادوار الشرائع المختلفة وفهم مقاصدها ضرورة ملحه حيث أن إحدى أدوار الشرائع العظمى هو القضاء على الأعراف الفاسدة والتقليد الاعمى. والمجتمعات التي تستند إلى إعمال العقل والاعتماد على منهجية الفهم والتحليل تلك هي المجتمعات المهتمة بمكارم الأخلاق فينمو فيها أعراف مجيدة، والمجتمعات التي لا تهتم بالعلم والاخلاقيات تنمو فيها عادات سيئة مذمومة، فعادات كل مجتمع تعبِّر عن حاله؛ استقامةً وانحرافًا، وانفتاحًا وعصبيةً، فالعلم ينتج نورا و عادات صالحة، والجهل يُنتج ظلمة و عادات جاهلية، وكلما حَسُن تديُّنُ المجتمعِ وحسنت عاداته وسلوكياته، واستقامته ارتقى وعلى وازداد وعيه.
والعادات الطيبة تنشأ من معانٍ كريمة وأخلاق رصينة، وقِيَم راقية التي تورثها عقائد مستقيمة وإيمان صحيح، مما ارتضته النفوس السوية في أمور معاشها ومكاسبها وعلاقاتها.
فلتنتشر الدعوة لتكون عامه بنبذ التقليد الأعمى، وترك العادات المذمومة والدعوة للعلم والعمل ووجب طرح تلك العادات والتقاليد فى نقاش مجتمعى ومن خلال حملات إعلامية مكثفة لنشر الوعى خلال أوساط العامة بمخاطر اتباع العادات السلبية، ثم زيادة الأبحاث والندوات التي تهتم بالحفاظ على هوية الأسرة والمجتمع في مواجهة التقاليد البالية ذات الأفكار الهدامة، لكى يضمن المجتمع رقيه وتحضره ويصبح مجتمعا مؤمنا ضد الفتن والنزاعات محصنا بالعلم والمعرفة وهذا هو المجتمع الذى نرنوا إليه جميعا.