من العدد الورقى: إخلاص من زمن فات بقلم الشيخ سعد الفقى
من حسن حظي أنني عايشت الزمن الوارف، يومها كان الصفاء والإخلاص والرضا إحدي أهم سمات المجتمع المصري الريف والحضر لا فرق. كل الناس في مجملهم لا يعرفون الأحقاد أو الضغائن أو الحسد، من خرج عن هذه الصفات الحميدة كان نشازًا وكان الناس يعرفوهم بالأسماء والصفات، وكانوا يعيشون في عزلة وإن رأيناهم صباحًا ومساءً.
رأيت بأم العين خالتي "صفية" وهي تحمل فوق رأسها طاجن اللبن وحبات الجبن الأبيض لتأتي به إلينا تاركة ما تحمله خلف الباب ثم تنصرف مسرعة حيث جاءت.
شاهدت أمي وهي ترد الجميل عندما كانت تذهب لتوزيع الطماطم والباذنجان والفلفل الأخضر علي الجيران باعتباره حقاً مكفولاً لهم خرج من الأرض وهم شركاء فيه، وليس منحة منها هكذا كانت تقول.
ذات مرة وكنت أتقمص دور سبع الليل وأقوم بحراسة الأرض الزراعية التي كانت لا تخلو علي الدوام من الخضراوات كالفول والكرنب وغيرها.
من بعيد شاهدت أحد المارة وقد التقط عددا من قرون الفول الأخضر، وظننت وبعض الظن أنه سارق، وكان لا بد من توبيخه، ولأنني في سن متقدمة ولا أعرف الأصول فقد نهرت الرجل وفي اليوم التالي وفي نفس التوقيت تقريبا رأيته يمر وإذا بوالدي رحمه الله يمسك في جلبابه وقام بجمع حجر كامل من الفول وأعطاه إياه، وبعد أن انصرف الرجل إلي حال سبيله أخبرت والدي بما حدث بالأمس وكان نصيبي علقة ساخنة ما زلت أحلم بها حتي اليوم.
وكانت مقولته الناس شركاء في كل ما تنبت الأرض، إخلاص من زمن فات، وأخلاقيات اندثرت من حياتنا، فلم تعد خالتي صفية تأتي إلينا ولم يعد أولادها بعد رحيلها كما كانت،
الوفاء الذي كان لم يعد موجودا، عند وفاة أحد أبناء القرية كانت عقارب الساعة تتوقف ومعها كل مظاهر الفرح والاحتفال.
حدث ذلك عندما كنا نحمل مشاعر رقراقة وقلوب نقية، اليوم الفرح والعزاء في مكان واحد أصوات قارئ القرآن لا تجد متسعا في الفضاء بعد أن زاحمتها أصوات "الديجيهات"، وصراخ ما يسمون أنفسهم بالمطربين والمطربات.
بالأمس القريب كنت أتحدث مع صديق لي عما آل إليه حال القرية المصرية وعدنا بالذاكرة إلي الوراء عندما كانت وشائج الحب هي الربط بين الناس وكانوا يعرفون أن للجار حقوقا وأن زيارة المريض واجبة إلخ.. ما كان متعارفا عليه من صفات حميدة وأخلاق خرجت من الخدمة، وتمنينا سويًا لو عادت بنا الأيام إلي الوراء، الزمن الفائت هل يعود؟.