الدكتورة إلهام سيف الدولة حمدان تواصل الكتابة عن الراحل الطاهر مكي.. عاشق الأندلس لغة وحضارة
لعل من الصواب أن أتوقف قليلًا عند شغف الراحل الدكتور الطاهر مكي باللغة الإسبانية وحضارة الأندلس ـ وهو المتبحِّر في علومها وأسرارها، فلم يبعده هذا الشغف عن الانتصار الدائم للغة العربية الأم، وانشغل بما تركه التأثير العربي في تلك الحضارة الأندلسية وكيف لعبت اللغة في التأثير على اللغة اﻹسبانية.. يقول عن ذلك: إن الكلمة الوحيدة التي دخلت الإسبانية واستدعت اهتمامي هي كلمة (هدية)، حيث كانت الهدايا شائعة في العصور الوسطى في الأندلس بين حكام الدول وسفرائهم ووزرائهم، وليس الأفراد.
وانتقلت الكلمة إلى اللغة الإسبانية، لكن مع تعديل بسيط في ذلك الوقت، حيث كان حرف الهاء يكتب فاء فكانت تنطق (فدية)، وفي إحدى المرات رجعت إلى المعجم، لأراجع ما معنى كلمة فدية فوجدت في المعجم أنها كلمة من أصل عربي، ومعناها سبورنو أي (رشوة)، إذن هناك ألفاظ كثيرة جداً تمثل حضارة، وألفاظ تمثل لونًا من العلاقات الاجتماعية.
وللتدليل على عشقه للأندلس لغة وحضارة.. أنه ـ وللغرابة ـ قام بما أعده ـ من وجهة نظرى ـ منازلة أدبية لأدباء الأندلس عن أول ملحمة كُتبت فى اللغة الإسبانية تحت اسم (القنبيطور) التي تعني (المحارب) أو ( السَّـيِّد /الذئب )؛ وهذه الملحمة لعبت دورًا مهمًا فى الأحداث السياسية فى بلاد الأندلس، وكان الإسبان يعدون هذه الملحمة عن تلك الشخصية من الأساطير وقصص التراث الشعبي التى تملأ تاريخ معظم الحضارات التى نشأت فى تلك البقعة من العالم، ولكن يعكف الدكتور العلاَّمة الطاهر مكى على البحث والتنقيب والتحليل مستعينًا بكل ما كتب فى التراث، ليقيم الدليل على وجود تلك الشخصية فعلاً فى الحياة.
ويوضح بعد الدراسة والتمحيص أنه شخصية حقيقية وأوضح أنه كان مغامرًا لا ينتسب إلى الإسلام أو المسيحية، ولا ينتمي إلى العرب أو الإسبان، ودرس زيف ادعاء الإسبان أنه كان بطلاً إسبانيًا قوميًا.. ثم قام بترجمة نص الملحمة التي كتبت عنه وبيَّن التأثيرات الغربية والإسلامية فيها، وليترك للمكتبة العربية أعظم الإنجازات فى تاريخ الأدب العربى عن حضارة الأندلس وتأثير الآداب العربية بوضوح عليها وعلى كل ما أنتجته قرائح الأدباء فى الغرب عامة.
لكن القضية الأخطر التى يدافع عنها بثبات وثقة العالم الجليل المتمكِّن من دراساته ومصادره وفكره هى التصدى لأكاذيب المستشرقين الذين يحاولون الإيحاء بأن دخول العرب إلى بلاد الأندلس كان احتلالاً، فيعد أستاذنا الجليل أن هذا محض ادعاء كاذب وللأسف يساند هذا الرأى بعض العرب جهلاً وانسياقًا خلف ما يبثه هؤلاء المستشرقون من فتن فى هذا الصدد، ويدلل على هذا بأنه عند دخول العرب إلى بلاد الأندلس لم يكن بها حكومة وطنية.. بل حكومة من (القوط) الغربيين الذين جاءوا من (ألمانيا)، وتبعية الأندلس للخلافة فى دمشق دامت خمسين عامًا فقط، بعدها استقل الأندلس عن العالم العربى تمامًا!.
وقام الدكتور الطاهر مكى بالرد على من يقولون إن الخليفة كان عربيًا، أن ملك إسبانيا من أصول فرنسية، تماما كما كان (محمد على) منشئ مصر الحديثة ألبانيًا، فخليفة الأندلس برغم أنه كان عربيًا، لكن الدولة كانت مستقلة، وكانت فى خلاف مع العباسيين، وبالتالى لم تكن الأندلس مستعمرة عربية على الإطلاق.. وهو الخطأ الشائع الذى يقع فيه كل من يتصدى للكتابة عن الأندلس تحت وهم ما يسمى بالاحتلال العربى.
ومن فرط عشقه للغة العربية لفظـَا ودلالة، نجده يغار عليها غيرة المُحب العاشق على الشعر الذى يكتب بالعربية لأن فى رأيه بأنه لا شعر خارج القصيدة العمودية.. وبأن الشعر الجيد هو الشعر العمودي، وما هو خارج هذا النمط ليس شعرًا وأعظم قاعدة للحكم على صلاحية النص من عدمه، هو عدم تركه إلا بعد الانتهاء من قراءته واستيعابه استيعابًا جيدًا ويترك أثره الفاعل فى الوجدان، وتلك هى غاية الأدب والمراد من وجوده بيننا فى الحياة، لذا نجد أستاذنا العالم الدكتور الطاهر مكى يحفظ القصيدة الجميلة من القراءة الأولى وتلك ملكة لا يملكها الكثيرون من المبدعين المحدثين، وما عدا ذلك يعده كلامًا يفتقد الإيقاع والموسيقي التي تفرض نفسها على الإيقاعات الشعرية.
وربما هذا الرأى قد يغضب الكثيرين من أجيال المبدعين المحدثين.. ويرى أن حركة الإبداع لابد أن تواكبها حركة نقدية موازية ومتواكبة مع حركة الإبداع، وبغير هذا لن تكون للإبداعات تأثيرها المرجو منها فى سبيل إثراء العقل والوجدان العربي ، ولكنه يلتمس الأعذار للجيل الجديد لأنه يكتب قبل أن يقرأ ويستوعب ولا يعيش التجربة كاملة حتى تنضج، ولا يرى النقاد من مشهد هذه الأزمة التي يراها فى مجال الإبداع بكل صنوفه وطرائقه.
وبالرغم من ذلك، فإنه يجنح للتعاطف مع الشعراء الثوار الذين يضعون هموم أوطانهم على أكتاف شعرهم ؛ فنراه فى هذا الصدد قد عكف على إصدار عدة كتب منها : (امرؤ القيس حياته وشعره) ودراسة فى مصادر الأدب و"بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال"، ويقدم للمكتبة العربية تحقيقًا شاملاً لكتاب ابن حزم "طوق الحمامة".. وهو لا يريد من كل هذا جزاءً ولا شكورا.
ترى إلى أى مدى أنصفت هذا الرجل.. وأنا من تقترب من محرابه فى حذر كاقتراب الذرة من المجرَّة التي تحوى تلك العوالم من النجوم والشموس والأقمار التى تزين وتنير مشوار حياته الحافل بكل صنوف الإبداع الصادق، الذي يأتى من نهر كالسلسبيل العذب فى مجراه.. يحنو على كل من يتناول الإبداع فى شتى الفنون والآداب من عارفيه وغير عارفيه؟.
على الجيل الحالى أن يترنم بأنه عاش فى زمن الطاهر مكى.. سفير الإبداع الذى يأتى كأنه آت ٍمن أنهار جنات الفراديس العليا.
** أستاذ العلوم اللغوية - أكاديمية الفنون