أحمد زكي شحاتة
"بعد التحية والسلام".. عبارة ستظل عالقة في وجدان الكثيرين منّا، مخلّدة ذكرى شاعر العامية العبقري سيد حجاب، الذي رحل عن عالمنا مساء اليوم بعد رحلة إبداعية حافلة توّجها بمشاركته في كتابة الدستور المصري، حيث كان مكلفًا بتسطير ديباجته.
وكان حجاب يعاني من سرطان الرئة، ويتلقى العلاج ما بين القاهرة وباريس.
وهناك.. من فوق فراش أبيض، على سرير بأحد مستشفيات عاصمة النور، انطلق لسان حاله مرددًا:
« أنا في التوهة، في الزحمة.. باضيع ولا راحة ولا رحمة، تعالَ انجدني من روحي، ومن توهاني في جروحي»، وسط شعور بالغربة لمغادرته أرض الوطن في رحلة علاج من داء ألمّ به، فأرهق رئتين طالما تنفستا قوافي وألحانا.
وأضاف، «وخلّي الكون يصالحنا» مخاطبًا ثلاثة أرباع قرنٍ من الزمان، أنتج خلالها أروع ما شدا به المعاصرون، منذ نشأ في قرية صغيرة يعمل أهلها بصيد الأسماك على ضفاف بحيرة المنزلة في محافظة الدقهلية، وبينما كان أترابه يمتطون ظهر «الفلوكة» يحمل كل منهم شبكة صيده ليعود في آخر اليوم بما تجود به البحيرة، كان الفتى سيد يمتطى صهوة القوافي حاملًا قلمه وكراسه، ويبدأ في صيد المفردات يأسرها في شباك قريحته، فتحيلها نغمات وألحانًا، حتى أصدر ديوانه الأول «صياد وجنية»، وانطلق بعدها إلى قاهرة المعز، حيث التقى الراحل الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وكوّنا «دويتو» إبداعيًا، حيث تناوبا تقديم البرنامج الإذاعي الشعري «بعد التحية والسلام».
وذاع صيت الشاعر الشاب، الذي قدم برامج أخرى منها «عمار يا مصر» و«أوركسترا»، كما شارك في الندوات والأمسيات الشعرية والأعمال التلفزيونية والسينمائية في محاولة للوصول للجمهور، حتى قدمه أستاذه صلاح جاهين للفنان الراحل كرم مطاوع ليكتب له مسرحية «حدث في أكتوبر»، ليبدأ انطلاقته الكبرى، حيث غنى له كل من عفاف راضي وجدو عبده وصفاء أبو السعود، وتعاون مع الموسيقار بليغ حمدي الذي لحن من كلماته أغنيات لعلي الحجار وسميرة سعيد، كما كتب لمحمد منير في بداياته أغنية «آه يا بلاد يا غريبة» في أول ألبوم له، ثم أربع أغنيات في ألبومه الثاني، ثم كتب أشعار العديد من الفوازير لشريهان وغيرها بجانب العديد من تترات المسلسلات منها «المال والبنون»، «ليالي الحلمية»، «شرف فتح الباب»، «أرابيسك»، «العائلة»، «بوابة الحلواني»، وغيرها، حتى وصفه النقاد والكتاب بأنه «أحد أعمدة الوجدان المصري» في العصر الحديث، وقد توّجت مسيرjه بالحصول على جائزة كفافيس الدولية عن مجمل أعماله، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2012.
وعبر العديدون من مثقفي مصر ومبدعيها، حزنهم لرحيل الشاعر الكبير، الذي كان بمثابة عمود للوجدان المصري بكلماته: «باصة م الشباك على البحر البعيد، واحنا داخلين بالأمل عالم جديد، كنت فاكرة يا مصر إني زهقت منك، واكتشفت اني محال استغنى عنك، حتى دوشة صوت جيراني، والزحام وحشوني تاني، بسمة حلوة لطفلة لسة صغيرة، لما كنت أديها حتة سكرة، قبل مانفوتك وحشتينا، يا مصر يا أمنا، وابتدى شيء ينجرح جوه الوجود، وابتدينا أسئلة ملهاش ردود، ميلنا ع الشباك نخبي، دمعة فرت مننا».
وهنا القاهرة الساحرة الآسِرة الهادرة الساهرة الساترة السافرة، هنا القاهرة الزاهرة العاطرة الشاعرة النيّرة الخيّرة الطاهرة، هنا القاهرة الساخرة القادرة الصابرة المنذرة الثائرة الظافرة، صدى الهمس في الزحمة و الشوشرة، أسى الوحدة في اللمة والنتورة، هنا الحب و الكدب والمنظرة، نشا الغش في الوش والافترا، هنا القرش والرش والقش والسمسرة، هنا الحب والحق والرحمة والمغفرة».