متابعة : رحاب عبد الخالق
صدر كتاب "الثقافة الفريضة الغائبة" للكاتب والمفكر المصري الكبير د. أسامة أبو طالب بتاريخ ١ يناير ٢٠٢١ عن دار نشر "إشراقة" للنشر والتوزيع، والذى جاء في ٢٢٨ صفحة، ويتضمن الكتاب ١٥ عنواناَ بعد المقدمة، تم تناول الثلاث عناوين الأولى في قراءة على ثلاثة أجزاء، وفي هذه القراءة سنتابع معاً مضمون عناوين الإصدار على التوالي.
تحت عنوان "الدور الديبلوماسي للثقافة " أوضح الكاتب أهمية الدور الديبلوماسي لعملية التبادل الثقافي بين الشعوب، وأهمية الحفاظ عليه والتمسك به في جميع المراحل، سواء كانت سلماً أو حرباً، فتوراً أو تأججاَ وزخماً للعلاقة، وهذا تحقيقاً لرؤية الكاتب من أن استمرار التواصل الديبلوماسي الثقافي له دور فعال لتعميق العلاقات، وإذابة صنوف الخلافات وتقريب لوجهات النظر والرؤى المختلفة بصورة ناعمة ومؤثرة، أيضاً تأكيداً على أهمية التطوير والمزج الثقافي بما "لا يخل" بالمضمون الأصيل للثقافة الأم والموروثات، كما أنه لا يجب التعامل مع الثقافات وكأنها حفريات لا تمس ولا تتطور، فالتطوير دون إخلال هو إضافة معاصرة للموروث، تتيح له فرص لمواكبة المتغيرات الحياتية العصرية "فلا تتعرض للإندثار" بل تظل متأصلة بوجدان الأجيال بصورتها المتطورة وجذورها العميقة .
في العنوان اللاحق "تراثنا وثقافة القرن الجديد" ينقلنا الكاتب إلى خطورة وتداعيات ما يطلق من شعارات جديدة مثل "العولمة الكونية"، وماذا وراء هذا الشعار وما يماثلة، هل الهدف هو ابتلاع للثقافات القديمة الأصيلة، وإنصهار حضارات التاريخ، لتكوين حضارة واحدة تحت مظلة هذا الشعار، عن طريق المزج التدريجي حتى يصل لدرجة المحو والإندثار، أونقطة اللا عودة،و عدم القدرة على الإستعادة ؟!، بمعنى أن تطور الثقافات والمزج لا يكون على حساب المساس بجذور الحضارات وموروثات أخلاقية، وتقاليد ولغة وفنون، والسلوكيات التى تحافظ على الهوية الثقافية، بل يكون بحرص ودراسة، للإضافة التى تتماشى معه، وليس للنقصان أو لحد الذوبان، نظراً للاختلافات المتأصلة للذائقة الثقافية بكل مجتمع وحضارة، والتى لا يجب أن تهزم أو تندثر تحت أي مسمى عصري أوشعارات زائفة، حتى لا يتحول من حوار حضارات إلى صدام حضارات، يتضح لنا من خلال هذا الطرح والسياق الواضح للكاتب أنه يسعي للتطوير العصري بوسطية، فهو مع تمسك الثقافات شرط الاحتفاظ بعناصرها الاصيلةو ذائقة منبعها، والتحديث بغية الحفاظ على صفة البقاء بعصرية مناسبة.
وتحت عنوان "الأدب وبناء الوعي" من خلال هذا العنوان أكد الكاتب على أهمية تحقيق شرط التعليم ومحو الأمية، ونشر الوعي، فبدون تحقيق هذه العناصر، لن يكون هناك قراءة، ولن يكون هناك -أديب يمتلك رصيد من الإبداع، دون توفر رصيد من قراءات متنوعة- بالتالي لن يكون هناك قارئ لتذوق هذا الإنتاج الأدبي، ومن البديهي تراجع الحركة النقدية والأدبية، كما أكد الكاتب على أن عملية الترويج للإبداع والأدب ليست مهمة الكاتب أودور النشر فقط، بل هو دور إعلامي وثقافي وتعليمي، فنشر الوعي ومحو الأمية بالمجتمعات هو الدور المنوط بكيانات الدولة القيام به، حتى لا يكون الناتج تراجع بدولاب حركة الأدب والنقد، ونشر الوعي لكل ما تشمله من عناصر القوة الناعمة التى هي شريان التقدم والأمن والنماء.
ماذا عن "ثقافة التسامح في الحضور والغياب "، عبر الكاتب عن رأيه في ما تطلقه منظمات وجمعيات حقوق الإنسان بأمريكا و دول العالم المتقدم من شعارات رنانة لخير الإنسان والحيوان والطبيعة، والتسامح بين الأديان وغير ذلك الكثير، بأنها متناقضة مع ما يحدث على أرض الواقع، معطياً العديد من الأمثلة والنماذج الحية، للكيل بمكيالين داخل وخارج الدول الغربية ليس فقط وقت الحرب بل أيضا وقت السلم فالمعايير المزدوجة موجودة بصفة مستمرة، والتصنيف العنصري يمارس بدءاً من التفرقة في التعامل داخل المطارات، فض المظاهرات بالشوارع بالعنف ، المعاملة غير الانسانية داخل السجون، كذا في في اعتلاء المناصب والوظائف والسماح بالإساءة للأديان المخالفة لديتنة الدولة وغير ذلك الكثير مما نراه يعرض، على مرئى ومسمع من شعوب العالم على المواقع الإخبارية المختلفة والإنترنت، وفي رأي الكاتب أن هذه المعايير "وضعت" سعياً لمزيد من التحكم السلطوي الكوني، بعيداً عن شعارات الإنسانية والرحمة والتسامح الزائفة .
من خلال "إشكالية الإبداع والدين"إصطحب الكاتب القارئ في رحلة شيقة منذ - طفولة العالم إلى اليوم- ،سارداً ما قبل نزول الرسالات السماوية، والإعتقاد المبهم الراسخ داخل الإنسان البدائي بوجود " قوة عليا" تسيطر على الكون وتديره، فكانت البدايات هي الحماية من مخاطر الطبيعة بماديات لتحميه، وتقيه من الفيضان والأمطار وغيره من تقلبات مناخية وتضاريس قاسية وزلازل، ثم كان التقرب وتقديم القرابين للآلهة والقوى المبهمة التى تسير الكون، ثم استخدام حركات جسدية وإشارات كلغة للتواصل مع الأخر، مرورا بعلاقة الفن بالمعتقدات الدينية والكهنة وأسطورة إيزيس وأوزوريس، الحضارات البابلية والآشورية والفينيقية، مروراً باليونانية والتى أسرد عنها الكثير والتى إزدهرت من خلالها صنوف الإبداع الفني والفلسفي والدراما، مؤكداً أن الإبداع الحقيقى يجسد الروحانيات والمعاناة الإنسانية ذاكراً طبيعة الصراع مع ظهور الأديان، ويوضح الكاتب عمل عقل الإنسان على محورين هما: محور الدين، والمحور الفلسفي، وعلينا أن نعي أن الفن الحقيقي لا يعادي الدين ولا يرفض التدين، بل يدعو للحق والخير والجمال حينما يتمسك بالإبداع الحقيقي الذي يلتقي مع كل القيم الإنسانية النبيلة والإنتصار لها .
تحياتي ولقاء قادم مع قراءة للجزء الخامس والأخير، بكتاب "الثقافة الفريضة الغائبة" للكاتب المفكر الكبير د. أسامة أبو طالب .