تراث ـ مع الناس نيوز
مصر منذ مئات السنين دائمة ولادة لرجالا أوقفوا حياتهم وأعمالهم لنصرة ما يرونه حقا، لا سيما في أوقات المحن التي كانت تواجهها البلاد عبر تاريخها، ومع ميلاد الصحافة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي، كان هذا الميلاد عسيرا وصعبا حين تفتحت أعين الكتاب والصحفيين آنذاك على منغصات الاستبداد والاحتلال، وعلى الفقر والتخلف الحضاري الذي كانت ترزح تحته معظم البلاد العربية، فقام ثلة من هؤلاء المثقفين والصحفيين بنشر ما يخالف مسارات السلطة، مُنخرطين في الحركات الثورية التي واجهت الفساد والاستبداد، ودفعوا في سبيل ذلك أغلى الأثمان، ومنهم خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم، الفلاح الفصيح الخطيب المفوه، مُلهم المصريين.
النديم وسنوات النضال
كان عبد الله النديم من هذه الطبقة، طبقة الصحفيين الوطنيين الذين رأوا تلك المآسي، واستفزتهم تلك المظالم على عموم الفلاحين المصريين، وقد لفت النديم نظر السياسي والدبلوماسي البريطاني ألفريد بلنت، حيث رآه أحد أهم الناطقين والمدافعين عن مصالح المصريين وثورة عرابي وحركته التي كانت تتسع شعبيا كل يوم، وكانت جريدة "الطائف" التي كان يحررها النديم تحمل حملة شديدة على التراخيص بإدارة المواخير والحانات والمراقص والمغاني التي هجمت على القاهرة تحت حماية الامتيازات الأجنبية فاستاء منها عموم المسلمين في مصر كما يصف بلنت
ولد الثائر والكاتب والصحفي عبد الله بن مصباح بن إبراهيم النديم في مدينة الإسكندرية يوم عيد الأضحى سنة 1261هـ/1845م، وكان أبوه القادم من محافظة الشرقية يعمل نجارا بالترسانة البحرية التي أُنشئت في عهد محمد علي، فلما أُغلقت الترسانة سنة 1841م بعد هزيمة محمد علي أمام العثمانيين المدعومين بالإنجليز في الشام، كان من شروط الاتفاق بين الطرفين إغلاق هذه الترسانة، وتقليل عدد الجيش المصري، فآثر والد النديم أن يفتح مخبزا صغيرا في حي القبّاري بالإسكندرية بعد تسريحه، ويومها ولد له ابنه عبد الله.
حفظ عبد الله النديم القرآن الكريم، وشبّ ذكيا فالتحق بالمسجد الأنور بالمدينة يتعلم فقه الشافعية والنحو وغيرها، لكنه تركها لعقم مناهجها، وتقليديتها التي لم تستهو خياله وذكاءه، فاتجه صوب ميدان الأدب ورجاله وسوقه يغشى مجالسهم، ثم قرر الذهاب إلى القاهرة سنة 1861م ليعمل موظفا في إدارة التلغراف، وفي القاهرة استطاع حضور مجالس كبار الأدباء والمثقفين، بل وبعض ندوات الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي ذاع صيته في حي الأزهر، وكان النديم آنذاك يعمل في القصر العالي للأميرة خوشيار زوجة الخديو إسماعيل، وحين شوهد في مجالس جمال الدين الأفغاني ووصل ذلك الخبر إلى القصر، دبر له مدير القصر خليل الأغا مؤامرة كاد النديم يموت فيها لولا هروبه مثقلا بجراحه، ولم يكتفوا بذلك حيث فصلوه من وظيفته الحكومية، وكانت هذه الحادثة أحد الأسباب الرئيسية التي جعلته ينقم على أسرة محمد علي وبذخها وظلمها الطاغي للمصريين.
هام النديم في الوجه البحري يتردد على كبار رجالاتها وأثريائها ممن يحبون الأدب، فيعمل عند هذا معلما لأولاده، وعند ذاك ضمن موظفي دائرته، لكن حنينه وشوقه ظل لمجالس أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي كان صوته يرتفع ضد ظلم الخديو إسماعيل على المصريين، وحالة البؤس التي وصلت إليها البلاد والعباد، فأنشأ الشيخ الأفغاني محفلا ماسونيا وكان يُقصد به آنذاك الجماعة السرية ذات الهدف المحدد الذي انبثق منه حزب الإصلاح، واختير النديم ليكون رئيسا لشعبة الإسكندرية، وهناك توثقت الصلات بينه وبين مجموعة من الثائرين على الأوضاع البائسة في مصر، وقد وجدوا أنفسهم في الصحف السياسية والمقالات الثورية والنقدية، وكان يشتغل في صحافة من هذا النوع أديب إسحاق وسليم نقاش، فأصدروا جريدة مصر ثم جريدة التجارة، فانضم لهم النديم، ولقيت مقالاته النجاح والشهرة والانتشار لقوة مضمونها، ونقدها اللاذع.
تعمق النديم في العمل الأهلي، ورأى أن التوغل بين عموم المصريين بنشر الحقائق، وبث روح المعرفة، والتعليم يساعدهم على تحقيق الإصلاح المنشود، فأشرف على افتتاح الجمعية الخيرية الإسلامية في شهر أبريل 1879م، وجعل هدفها فتح المدارس الأهلية لجميع أبناء المصريين، ومجانا للفقراء، واهتم النديم بالأنشطة المدرسية فعلم التلاميذ أهمية الصحافة والمسرحيات القومية، الأمر الذي جر عليه سخط كبار رجال السياسة آنذاك ومنهم رياض باشا رئيس الوزراء، يقول النديم:
"أوجس رياض خيفة مني، بما بلغه من أحد الذوات عني، فعزم على فض الجمعية، وتشتيت العصبية، ووسوس إلى بعض الذوات من الأعضاء وجعلهم لي أعداء يُعارضونني في كل موضوع، ويتظاهرون بغير المشروع، لأضيق برجال أنسي، وأترك الجمعية بنفسي"
آثر النديم أن يُشعل جذوة الثورة في نفوس الناس بطريقتين أخريين، الأولى من خلال تطوافه في البلاد، وارتقاء منابر المساجد، ومجالسة الفلاحين، يعرفهم حقيقة الأوضاع والفساد والظلم في البلاد، فيشعل الثورة في نفوسهم، وكيف يرزحون في الفقر والمرض والعوز، بينما "الأسياد" يرفلون في العز والبذخ والحفلات الصاخبة وينفقون الأموال يمنة ويسرة بلا رقيب ولا حسيب، وأموالهم هي على الحقيقة أموال الفلاحين البؤساء.
ولفصاحته وقوة حجته وبيانه كان كبار الأزاهرة وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده يقدمونه ليخطب فيهم، ويجتمعون حوله ليستمعوا إليه، وينقادون له ولأفكاره، وكثيرا ما ثاروا والتهبت مشاعرهم إثر حضورهم محافله الخطابية كما يذكر الشيخ رشيد رضا.
أما الخطوة الثانية التي اتخذها النديم في طريق كفاحه واستنهاضا للثورة، ولضمان وصولها لأكبر شريحة ممكنة من الناس، فكان إصدار جريدته "التنكيت والتبكيت"، الجريدة السياسية التي سخّرها لإيقاظ المصريين، فتارة يتكلم عن ضرورة انتشار التعليم بل وضرورة تعليم البنات على الرأس، ونراه يعزو جهل قطاعات كبيرة من الناس حينذاك نظرا إلى جهالة الأمهات، يقول: "فترى الأم تضرب ولدها بالمنديل على إطفاء القنديل، وتأمره باللعب مع الكلاب، والنوم في التراب، وترهبه بالزنجيل، وتُخيفه بالمستحيل، فتراه يهرب من "البُعبُع" ولا وجود له... حتى إذا كبر وترعرع وطال، خوّفته بالكتاب إن تضمخ بالهباب".
لذا كانت مقالاته شديدة على الجهل والجهلاء، الذي اعتبره السبب الأول لبقاء المظالم واستعلائها في مصر، يقول: "الجهل استعبدنا، وطردنا عن التقدّم وأبعدنا، وأكثر فينا الآمال، وأوقعنا في سوء الأعمال، فصرنا أضحوكة بين الأنام، ولعبة بيد الطغام، وما ألزمني ترك التلويح والميل إلى التصريح إلا خوفي على الصغار، من سوء أفعال الكبار، فإن الطباع جُلبت على التقليد، وطُبعت على عدم التقييد".
لهذه الجرأة التي لفتت كافة طبقات المصريين وعلى رأسهم زعماء الثورة العرابية، فقد اتصل به واحد من أكبر رجالاتها وهو علي فهمي المقرب من عُرابي، الذي عرض عليه أن يدعو علانية إلى دعم حركة الجيش بقيادة أحمد عرابي ورفاقه بقلمه ولسانه، وبسط له الخطة الكاملة التي يعدها الجيش لتصل البلاد إلى ما تريده من حرية ومساواة بين المصريين والأتراك، ومن حكومة دستورية تُظلها الشورى، وعلى الفور وافق النديم، وفي ذلك يقول:
وأعلنت حب العسكر والتعويل عليهم، وناديتُ بانضمام الجموع إليهم، وأوغلتُ في البلاد ونددت بالاستبداد، وتوسعت في الكلام، وبينت مثالب الحكام الظُلام، لا أعرفهم إلا بالجهلة الأسافل، ولا أبالي بهم وهم ملء المحافل".
وفوق ذلك شارك عبد الله النديم في التشكيلات العسكرية للجيش، وحين رأى أحمد عرابي هذه الشجاعة النادرة، والقلم السيّال، والخطب التي تهتز لها أفئدة المصريين وتتأثر بها، قرر تعيينه مستشارا مدنيا له، ثم أشار عليه أن يغير اسم المجلة، التي أصبحت "الطائف"، وظهر العدد الأول منها في نوفمبر/تشرين الثاني 1881م، وأصبحت "الطائف" جريدة الثورة، ولسان مجلس النواب، وأكبر وأقوى الجرائد في ذلك العهد، بل أصبحت الصحف تنقل عنها ما تكتبه حتى أهم وأشهر الجرائد حينذاك "الوقائع المصرية"، ثم انتقل بها إلى ميدان القتال لتحريض الجنود وإشعال حماستهم.
لم يترك النديم في تلك الأشهر الحاسمة من سنوات 1881 و1882م حادثا إلا استغلّه لصالح الثورة، يثير الناس، ويُهيّج مشاعرهم ضد الخديو وحاشيته وارتمائه في أحضان الأجانب، وفي ذلك يقول: "أخذتُ أتقلّب في البلاد، وجاهرتُ بالتضاد، ولبستُ ثوب الجلد، وتابعت الخُطب في كل بلد، وحرّكتُ الأفكار حركة لا سكون لها، ونشرتُ مظالم الحكّام وأعمالها، وناديتُ بهدم دعامة الاستبداد".
تنامت أخبار القبض على عبد الله النديم للصحف المصرية والعالمية، فأحدثت ضجة، وطالبت بالإفراج عنه فقرر مجلس الوزراء المصري أن يُبعده عن مصر للشام
هزيمة الثورة وسنوات الشقاء
لم يرض رئيس وزراء فرنسا الجديد غامبتيا اليهودي الأصل بالحرية التي تنسّم عبيرها المصريون في هذه الأشهر القليلة، فقد أصبح لهم مجلس نواب، وجيش يحافظ على هذه التجربة، ويتدخل ضد مظالم الخديو، ويحد من أطماع الإنجليز والفرنسيين في مصر، وفوق ذلك صحافة حرة واعية أصبحت لسان المصريين ومطالبهم المشروعة، فراح الفرنسيون يحضون الإنجليز على الدخول العسكري في مصر بحجة دعم الخديو توفيق، حتى يستعيد سلطاته التي كان يتمتّع بها والده، ونسج الإنجليز والفرنسيون مع الخديو توفيق خطتهم بأن يستدعيهم ضد تسلط عرابي واستعراضه العسكري، وبالفعل جاءت السفن الإنجليزية في شهر يوليو/تموز 1882.
ودخل الجيش المصري بقيادة عرابي في سلسلة من المعارك الخاسرة في الإسكندرية وكفر الدوار ونهاية المطاف في معركة التل الكبير في الإسماعيلية التي كانت الخاتمة، والتي على إثرها احتل الإنجليز القاهرة، وتم القبض على كبار الضباط المؤيدين للثورة بما فيهم عرابي في سبتمبر 1882م، وحين فرغ الإنجليز من القبض على العسكريين شرعوا في القبض على كبار شيوخ الأزهر والمثقفين الموالين للحركة العرابية، فقبضوا على الشيخ محمد عبده، ولم يجد عبد الله النديم أمامه سوى الهرب، فاتجه في زي صوفي تارة، ومغربي أخرى، ورجل حجازي أخرى إلى الوجه البحري الذي ظل يتردد على قراه ونجوعه ومدنه يتخفى عند الثقات والوطنيين من الفلاحين والعُمد المصريين الذين آووه وقدموا له كل الدعم لمدة عشر سنوات كاملة، كان سلواه فيها قلمه وكتبه ومؤلفاته التي كتب بعضها في تلك الأثناء مثل كتابه "كان ويكون".
ظل النديم في ترحاله وتخفّيه وآلامه وهمومه تلك تسع سنين، حتى عرفه أحد الوشاة في قرية تُسمى "الجميزة" بمحافظة الغربية، ودل البوليس عليه، وبالفعل قُبض عليه في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1891م، وتنامت أخبار القبض على الصحفي اللامع وخطيب الثورة العرابية عبد الله النديم إلى الصحف المصرية والعالمية، فأحدثت ضجة، وطالبت بالإفراج عنه لينتفع الميدان الصحفي بعبقريته وأسلوبه الفذ، وقرر مجلس الوزراء المصري في نهاية الأمر تحت صدى الرأي العام أن يُبعد النديم عن مصر إلى الشام، فاتجه إلى يافا، لكن في العام التالي توفي الخديو توفيق وارتقى بدلا منه الخديو عباس حلمي الثاني الذي عفا عنه، وسمح له بالعودة إلى مصر متى أراد.
سكوت صوت القلم!
وبالفعل عاد النديم إلى مصر متقدا حماسة، وقرر افتتاح جريد "الأستاذ" التي سارت على نهج جريدة "الطائف" و"التنكيت والتبكيت" في نشر الوعي، وإيقاظ الهمم، وكشف ما يُحاك للمصريين على يد الاحتلال البريطاني، ومقارعة التهم الاستعلائية التي كان يروجها الكتاب الأجانب ورجالاتهم من المصريين، وحين أخذت نغمة النديم في جريدته "الأستاذ" تعلو بنقد لاذع للإنجليز، وظلمهم في الهند ومصر، أصدر اللورد كرومر قراره إلى الخديو عباس لنفي النديم مرة أخرى، فاضطر الخديوي صاغرا إلى تنفيذ القرار، وودع "الأستاذ" قراءه في آخر عدد صدر في 13 يونيو 1893م، فقال في خاتمة وداعه:
"وما خُلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من عصمة وجلال، وعلى هذا فإني أودّع إخواني".
آثر النديم أن تكون وجهته بعد لأيٍ وتعب ومشقة إلى الأستانة، خاصة أن السلطان عبد الحميد الثاني قد وصلت إليه أخبار النديم وشخصيته ومواهبه، فآثار أن يكون من الرجال المقربين له في إسطنبول، وكانت المدينة تعج حينذاك بالمطاردين وكبار المشايخ والعلماء والكتاب من كل بلد، مثل الشيخ جمال الدين الأفغاني وغيره، وقرر السلطان عبد الحميد تعيينه مفتشا للمطبوعات بالباب العالي بمرتب 45 جنيها مجيديا، فكان يصرف أغلبها في سبيل الخير والبر والأقارب والأصدقاء فضلا عن الإحسانات التي كان يفيض به عليه السلطان عبد الحميد الثاني.
وكدأب النديم الذي عاش منافحا ومقاوما للظلم والظالمين، فقد رأى طغيان ونفوذ الشيخ أبي الهدى الصيادي الحلبي الذي كان مستوليا على عقل السلطان، فانتقد تصرفاته علنا، وهجاه بأشد أنواع الهجاء وأقذعه، بل ألّف فيه آخر كتبه "المسامير" صرخة في وجه الطغيان والاستبداد والجهالة، وعاش النديم آخر أيامه في إسطنبول على أمل العودة إلى وطنه الذي أحبه وكافح في سبيله، لكن وافاه أجله بعد مرض أصابه في ليلة الأحد العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 1896م عن عمر ناهز الرابعة والخمسين، فنعاه السلطان عبد الحميد، وحزن لوفاته، وسارت أمام نعشه فرقتان من الجيش، وفرقة من الشرطة، وطلبة المكتب السلطاني، وسار جمع غفير من الكبراء منهم أستاذه جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الجازولي، ووُري الثرى في مقبرة يحيى أفندي في بشكتاش بإسطنبول، بعد رحلة كفاح طويلة لم يهدأ له بال في سبيل تحرر وطنه ورفعته!.
المصادر :
اللورد كرومر: مصر الحديثة 1/177، 1782
ألفريد بلنت: التاريخ السري للاحتلال البريطاني ص1043
بلنت: المصدر السابق ص125.6
اللورد كرومر: مصر الحديثة ص263-266.4
التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي ص113.5
عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية ص41،