الشاعر/ ممدوح المتولي
بعد حصوله على الثانوية العامة، عام 1980م، وفي رحلة سؤاله عن كيفية الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، كان اللقاء الأول الذي جمع بيني وبينه، إذ جاءني بحثا عن إجابة لسؤاله، ومن يومها صار الودُّ، الإنساني والفني، متصلا بيني وبينه.
مرَّت أيام، وجاءت أيام.. أنهى دراسته وتخرج من كلية الفنون الجميلة/ الإسكندرية عام 1986م.. كان مشروع تخرجه عن "الرمزية في الفن التشكيلي".. الرمزية إذن هي مدخله الأول لمعرفة ماهية الفن وإشكالياته، الفكرية والبصرية والتشكيلية، إذ كيف يتسنى له، فنيا، قراءة الواقع الذي يتحرك فيه كواحد من هذا العالم المليء بالثنائيات المتناقضة، الأفراح/ الأتراح، الخير/ الشر، الإشراق/ الغروب، الكذب/ الصدق، النور/ النار، الأبيض/ الأسود.. هذان اللونان اللذان يلخصان شكل الحياة وما فيها.
بين هذين اللونين، بالدرجة الأولى، وبين الألوان والصبغات التي تستخدم في اللوحات التصويرية يقيم "وحيد البلقاسي" ابن مدينة بيلا/ كفر الشيخ، وكلمة "مدينة" هنا هي كلمة مجازية أكثر منها واقعية، أو لنقل إنها كلمة تعبر عن مفهوم إداري، لأن "بيلا" هي المركز الذي يضم الكثير من القرى الصغيرة، والحقيقة أن "بيلا" ما هي إلا قرية كبيرة، إذ يمشي في شوارعها، إلى الآن، الفلاحون وهم يسوقون أنعامهم في ذهابهم إلى غيطانهم صباحا وعودتهم منها مساء، ولا بد أن تكرار هذا المشهد، بشكل يومي، سيتحول إلى رمز فني، مع كثير من المشاهدات الأخرى: عربات الكارو المزخرفة، تميمة "الخمسة وخميسة" التي تُشهَر في نظرات العيون الحاسدة، حِدوة الحصان، الرسومات التي تُرسم، بشكل تلقائي، على جدران البيوت في مناسبات اجتماعية ودينية محببة، الطقوس الشعبية التي تمارس في مولد النبي عليه الصلاة والسلام، وفي الموالد التي تقام لأصحاب المقامات، ساكني تراب مدينة بيلا.
لا بد أن تلك المشاهدات، مضافا إليها ما تجود به الطبيعة، أرضًا وسماءً، طبعت وجودها على صفحات العين والروح، لتحفرها، فيما بعد، يد الفنان، بضربات التولز على سطح الخشب المحبَّر بالأسود، وبتلك الضربات، المستقيمة منها، والمنحنية، أو الدائرية، يستخلصُ الفنانُ اللونَ الأبيضَ الذي يُحدِّدُ به الرموزَ التي امتلأ بها من مشاهداته الثرية.
ما من لوحة من أعمال وحيد البلقاسي، الحفر منها خاصة، بأبيضها وأسودها، إلا وترى فيها روح القرى، وتكاد تشم رائحة عرق شخوصها، أو تلمس بيديك أحلامهم، فاللوحة عنده هي مجموعة من رموز وعلامات يشكلان معا عالما أسطوريا عنوانه الدهشة، ولكي نستوعب لغة لوحاته، الغنية ببساطتها، والعميقة بشفافية غموضها الساحر، علينا أن ننظر للأشياء التي ندور في فلكها كما ينظر هو إليها، إنه لا يرى الأشياء إلا بعين الفنان الذي بداخله، وعلينا أن نتعلم، مثله، كيف نرى لغة الفن، وكيف نستوعب، ولو بشكل بسيط، جماليات الإيقاعات التشكيلية في أي عمل فني.
في عام 1980م يقيم البلقاسي، في أول انطلاقة له، وهو لمَّا يزل في إعدادي فنون جميلة، يقيم معرضه الأول، يقيمه في قصر ثقافة بيلا، ليأتنس باغترابه الذي يعيشه بين أهله وناسه، فهو لا يكاد يفارق مرسمه الصغير الكائن، وويّ من أعاجيب القدر، في حيٍّ يكاد هو الأكثر غرابة بين أحياء "بيلا ", والاسم في حالة هذا الحي يدل على المُسمّى، إنه حي "النُّقرَة"، حيٌّ له قوانينه الخاصة به، وأهم تلك القوانين قانون "الجدعنة" بمفهومه اللولبي، المتأصل في الشخصيات الشعبية التي يندر اللقاء بمثلها إلا في مثل هذا الحي، في أي بلد كانت، من بلاد مصر المحروسة.
كنز من العلاقات الإنسانية العارية من أي تكلف، ولا ادعاءات، يتكشف بريق ذهبه الخالص لعيني فنان تترصد كل شاردة وواردة من تعاملات الناس مع بعضهم البعض أو مع الأشياء من حولهم، وبقدر الفوضى الواضحة الملامح في تصرفات البعض، فأنت تدهش للعبقرية التي تكاد تشع من عيون البعض الآخر، وهذا سر من أسرار الشخصية المصرية عبر كل زمان ومكان.
ومن الطبيعي أن تكون شخصية الفنان قد احتفظت بكثير من تصرفات هؤلاء الناس، حتى بعد انتقاله إلى حيًّ آخر، فهو المشغول دائما بجوَّانيات الشخصيات الإنسانية عامة، والشخصيات المصرية بشكل خاص، ومن الطبيعي أيضا أن الملامح النفسية، لهؤلاء الناس، قد ساهمت إلى حد كبير في شخوص لوحاته، وأن أحلامهم وأوهامهم وواقعهم المعاش صاحبته، وتصاحبه وهو يتمشى عبر الانحناءات التي تقرّب ما بين الأبيض والأسود.
النساء الجالسات أمام بيوتهن، وحكاياتهن بالهمس حينا، وحينا بالصوت "الحيَّاني".. في الحالتين تنفرط الضحكات التي لا تعبأ بشيء، أي شيء، فهي مشغولة فقط بكسر الملل، وتحطيم الأحزان المكبوتة لأسباب لا يملكون دفعها، عنهم، إلا بالضحكات المجلجلة.. وأطفال تتباين أعمارهم بين تهتهات الطفولة وأول الصبا، مجرد النظر إلى ملابسهم، والتراب العالق بها وبوجههم يجعلهم، وأمهاتهم، مادة فنية حتمًا ستأخذ حظها من مجاورة الأبيض بالأسود في لوحات الفنان، وحتما ستكون ملامح الآباء حاضرة بكدها، وبالغموض الذي تعبر عنه الخطوط التي حفرتها يد الزمن على صفحات الوجوه.
من مرسمه في حي "النُّقرَة" إلى صالات عرض اللوحات الفنية بأتيليه القاهرة، ففي عام 1990م يقيم البلقاسي أول معارضه في وهج نور العاصمة، ويكتب الفنان الناقد "عز الدين نجيب" مخاطبا البلقاسي عن هذا المعرض قائلا: (حينما تخرج الرؤية الإبداعية من منابع الصدق يقل حجم التكلف في التقنيات الفنية ويتوحد الأسلوب والمضمون بلا حذلقة.. ونصبح أشد قربا من بعضنا البعض ومن الحس الإنساني.. هذا ما شعرت به أمام لوحاتك الصغيرة الصادقة التي جعلتني أستعيد رؤى وأحلاما منسية في قرار الأعماق بينما أرى الحس البدائي "الفطري" ببساطته المدهشة وكأنك تنهل من نهر المياه الجوفية لتراب الشعب المصري المتدفق عبر آلاف السنين، فتتواصل بسلاسة مع من سبقوك من الفنانين الرواد، في هذا المجال وتقول لنا كل شيء بغير تكلف.. أشعر الكثير يجمع بيننا، ليس أقله معايشتي لكفر الشيخ فترة عزيزة من حياتي، بل هو التيار التحتي ننهل منه معا.. ولو لم نلتق من قبل).
ثم كان في عام 1991م أن سافر الفنان "وحيد البلقاسي" كما سافر ويسافر الكثير من المصريين بحثا، بسعيهم الشريف، على لقمة عيش شريفة، سافر الفنان إلى الأرض المقدسة، بلاد الحجاز، المملكة العربية السعودية، وهناك اشتبك بالصحافة الفنية، يكتب قراءات تشكيلية لأعمال الفنانين، فهو يمتلك رؤية، ورأيا، فيما تقع عيناه عليه من إبداعات تشكيلية.
تشكلت الرؤية، وتشكل الرأي النقدي، عند وحيد البلقاسي، من كثرة قراءاته عن الفن، وأهل الفن، وكان أول كتاب صاحبه في حياته الفنية، كما ذكر هو، في أوراق له عندي، كتاب "المليونير الصعلوك" للكاتب الراحل "كمال الملاخ" الأثري الكبير، وكان هذا الكتاب مدخله لقراءة ما تقع عليه يده من كتابات تتناول أعمال الفنانين من كل الجنسيات، ومن كل الاتجاهات الفنية، هذا بالإضافة إلى عشرات الكتب التي كان يعيرها له أستاذه في كلية الفنون، الأستاذ الفنان "مجدي قناوي" الذي حمله أمانة أن يكون متفوقا، مذكرا إياه بتفرد الفنان "عبد المنعم مطاوع" ابن كفر الشيخ، ولا ينسى البلقاسي أبدا كلام أستاذه وهو يقول له: "يا وحيد سوف نفخر بك يوما.. افتكر الكلام ده"، وكان "مجدي قناوي" أول من اقتنى أعمالا فنية من أعمال تلميذه "وحيد البلقاسي".
يعود الفنان من رحلة غربته عام 1995م، يعود بخفي حنين، فلا مال يستر فراغ جيوبه، "إيد ورا، وإيد قُدام"، وكأنك يا ابو زيد ما غزيت" يعود ليسكن اغترابه، ولا أنيس له سوى رؤاه الفنية، وسوى موهبته التي يتكئ عليها، وعلى جرأته في كل لحظات إبداعه، هو لا يعرف التحضير لعمل فني ما، سواء كان هذا العمل حفرا على سطح الخشب، ومن ثم طباعته على الورق، وهذا يحتاج لمجهود عضلي كبير، أو كان هذا العمل رسما أو تصويرا بالألوان الزيتية، أو أي مواد أخرى.. هو يتحاور مع العمل الفني أثناء تشكيله للعمل ذاته، ربما يسأل العمل: على أي شكل تريد أن تكون؟ ولماذا اخترت هذا الشكل دون غيره؟ وهل إذا اقترحت عليك أن تكون على شكل آخر، أريده أنا، هل تقبل؟.
مثل هذه الأسئلة وغيرها يطرحها الفنان على العمل وهو بين يديه، يطرحها ويده لا تكل ولا تمل، وبقوة واعية تدفع بالتولز في انحناءات واستقامات ودورانات لتحفر الرموز، التي تتكشف للفنان على سطح اللوحة، فيسير وراءها، ليصل إلى النبع الذي يفيض دائما بما يشكله الحلم من إيقاعات وخيالات، لن يستريح الفنان إلا بالإمساك بها، وإظهارها بشكل فني يليق لها، ويليق بما يجاورها من علامات توحي بما تحمله من دلالات تشكيلية لا تصرّح بما فيها إلا لأصحاب البصائر النقية.
عام 1996م يشارك البلقاسي جماعة المثلث الذهبي (جماعة فنية تشكلت من محمد كمال، عبد الرازق عبد المنعم، عبد الرحمن عطية، رائف ناصف) لكنها لم تستمر، حيث انفرط عقدها سريعا، سريعا) شاركهم البلقاسي معرضهم في أتيليه القاهرة، لتكون المرة الثانية له لعرض أعماله أمام جمهور الفن التشكيلي بالقاهرة.. أما المرة الثالثة، فكانت عام 2000م، في أتيليه القاهرة أيضا، حيث أقام الفنان معرضا خاصا به، يلخص الفنان "أحمد نوار" رؤيته للمعرض بكلمات يكتبها للبلقاسي، كلمات تقول: (أنا مطمئن أنك حفار متميز منذ الوهلة الأولى، واليوم مطمئن لخصوصيتك في الحفر)
بهذا التميز، وهذه الخصوصية، الذي اطمأن لهما الفنان الكبير د. أحمد نوار، نقف أمام لوحات البلقاسي لمحاولة فهم سر هذا التميز، وأين تكمُن تلك الخصوصية؟.
إذا اعتبرنا أن المفردات التشكيلية عند الفنانين التشكيليين، نحاتين كانوا، أو حفارين، أو مصورين، أو رسامين، هي بمثابة اللغة عند الشعراء، أو الكُتَّاب، على اختلاف مسميات الإبداع اللغوي، فاللغة عند هؤلاء واحدة بين أيدي الجميع، تماما مثل المفردات التشكيلية هي متاحة لكل الفنانين، والكل ينهل منها، فالتكوين الشكلي للجسد الإنساني "الفورم" لذكر كان أو أنثى، ما من فنان إلا وتعامل، تشكيليا، معه، ومع أن "الفورم" واحد، إلا أن التناول الفني له يختلف من فنان لآخر، وهذا هو الفن، وقس على هذا المثال كل المفردات التشكيلية التي يتناولها الفنانون، النخلة/ الحصان/ الطائر/ الشمس/ النجم/البحر/ النهر.. إلخ.
إذن لن يكون التميز إلا بكيفية التناول، والمقدرة على تطويع المفردات، تشكيلية كانت، أو لغوية، تطويعها بما يخدم الإيقاع الفني، في فنون التشكيل كان، أو في فنون الكتابة، وهذا ما يميز شاعرا ما بين كثير من الشعراء، أو كاتبا ما بين كثير من الكتاب، نسمع من المتميزين الكلام فنشعر أننا نسمع لغة لم نسمع بها من قبل، ولأن مخزون المفردات التشكيلية، عند وحيد البلقاسي، مخزون أصيل، ولأن موهبته، منذ البدء، موهبة حقيقية، فإنهما يدفعان به إلى تلك المنطقة، منطقة التميز، ولهذا نشعر عندما نقف لمشاهدة أعماله بأن الذي نراه لم نره من قبل.
أما عن الخصوصية، وأين تكمن في أعمال البلقاسي، خاصة في أعمال الأبيض والأسود؟ فهي تكمن في انتماء تلك الأعمال لتراب الأرض، واستلهامها غير المؤدلج، بأي نظريات سوى نظرية الفن، ولا أقصد هنا مقولة "الفن للفن" إنما أقصد الفن بغير ادعاء، فـ "البلقاسي" لا "يفن" إلا بما امتلأ به من رؤى تعلن عن نفسها بجريان الماء فيه، أو باحتدام شعلة النار فيها، وعصف الهواء، ثم يكون على الفنان، من تجليات الخيوط الأربعة "التراب، الماء، النار، الهواء" أن يأخذ من المفردات التشكيلية ما يؤكد خصوصية عباراته التي يحفرها، على السطح الخشبي، صورا تتشبع من فيوضات روحه، أثناء عملية الطبع، وعندما تُعرض علينا، تُوقظ فينا الحاسة التي قليلا ما نشعر بها، حاسة الدهشة.
ينتقل وحيد البلقاسي لمرسمه الجديد، الأكبر مساحة، الأفضل إضاءة من مرسمه السابق، مما مكّنَه في مرسمه هذا أن ينسق مكتبته بشكل أفضل مما كانت عليه، واستطاع أن يحافظ على لوحاته، الكثيرة القيمة والعدد، بطريقة تحفظ لها بقاءها بشكل كريم، واستطاع أيضا أن يتواصل، من خلال أدوات التواصل الاجتماعي، مع العالم الافتراضي، كما يسميه البعض، لكن وحيد البلقاسي استطاع عام 2010م أن يُحوّل هذا الافتراض إلى حقيقة ملموسة بتكوينه "جماعة بصمات الفنانين التشكيليين العرب" بهدف تحقيق التقارب والتواصل بين فناني الدول العربية، وفي حدود ما أعرف عن الجماعات الفنية والأدبية، التي تشكلت في أزمنة مختلفة، لا أعرف جماعة منها استمرت مثلما تستمر "جماعة بصمات" ربما لأنها بدأت بداية قوية فأعطتها تلك القوة دوافع الاستمرار، إذ بعد الإعلان عنها والتأسيس لها أعلنت عن أول ملتقى فني عام 2012م، وأقيم هذا الملتقى في خمس قاعات عرض، في قلب القاهرة، وافتتح صالات العرض د. شاكر عبد الحميد، وزير الثقافة، وقتها، و د. عماد الدين أبو غازي، والفنانة إيناس عبد الدايم، وزير الثقافة الآن.. كان عيدا فنيا لم تستطع مؤسسة رسمية على تهيئة مثل هذا العيد لجمهور الفن التشكيلي في مصر.
مع تتابع السنوات تتوسع أفكار جماعة بصمات، ويتم تكريم الأجيال الأولى من فناني الدول العربية أمثال الفنانة فوزية عبد اللطيف/ السعودية، الفنان محمد موسى السليم/ السعودية، الفنان حافظ الدربي/ العراق، الفنان عبد الله نواوي/ السعودية، الفنان عثمان الخزيم/ السعودية، الفنان جواد سليم/ العراق، الفنان فائق حسن/ العراق، كما قدمت ميداليات تذكارية بأسماء فنانين رحلوا، بعد عطاء فني متميز، عن عالمنا، منهم اسم الفنان عبد الهادي الوشاحي/ مصر، واسم الفنان عبد المنعم مطاوع/ مصر
رغم الانشغال بالتخديم على جماعته الفنية/ بصمات، لم يتوقف البلقاسي عن إنتاجه الفني، فهو فنان لا يعرف الراحة إلا بمزيد من العمل، فقد استطاع أن ينجز عملا غير مسبوق في أدبيات فن الحفر على الخشب، حفرا وطباعة، بالأبيض والأسود، حُفِر على أجزاء، تُشكل هذه الأجزاء لوحة بطول 10 متر، ارتفاع 1,5متر، هي عبارة عن جدارية، طُبعت على ورق الكانسون، تحكي حكايات الشعب المصري في كل حالاته وانفعالاته، تذكرنا بالجداريات الفرعونية المحفورة على جدران المعابد، والتي صور فيها المصري القديم مناظر من حياته اليومية، وهو يزرع الأرض، ثم وهو يحصد الخير منها، وبها سجل انتصاراته على الغزاة، وطرده لهم بعيدا عن أرض مصر، وهنا أستحضر بعض ما كتبه الدكتور "يوسف بوزو/ الأردن" في كتابة له عن البلقاسي:
(فنانٌ يرسمُ بالغيمِ ويحفرُ بالروحِ ما تشظّى من مواويلِ النيلِ وهي تغرِّدُ أغنيتها الأخيرة على بابِ الله ..!سُمرةُ الوجهِ .. ورعشةُ اليدِ.. وخفقةُ القلبِ من النظرةِ الأولى.. هذيانٌ صوفي الروحِ.. وبيانٌ يعلو هاماتِ الشجرِ..! وطيور النيل الحالمة
إنها الملكة/ الأم /الحبيبة/مصر تسبح بعربتها وتطوف على خدِّ النيلِ
بينما تتطايرُ ضفائرها لتأخذَ الريحَ كيفما تريد)، وأستحضر أيضا مشاهدتي للفيلم التسجيلي "الحفر على الحرير" الذي أبدع صناعته، إعدادا وتنفيذا، الشاعر د. علي عفيفي، مدير قصر السينما سابقا، ففي هذا الفيلم رصدٌ، بعين الكاميرا، لعملية صناعة لوحة وحيد البلقاسي، من لحظة تجهيز السطح الخشبي للحفر عليه، إلى عملية الحفر ذاتها، والغريب في تلك العملية، أن الكثير من المفردات التشكيلية، التي تشكل مضمون اللوحة، تُرسمُ بشكل مقلوب! لتأخذ، بعد عملية الطبع وجهتها المعتدلة، التي قصد إليها الفنان من بداية التجربة، هذا بالإضافة إلى ما سجلته كاميرا الفيلم، من مخزون الأعمال الفنية التي أبدعها وحيد البلقاسي على اختلاف وسائط الإبداع فيها: لوحات حفر أبيض وأسود، حفر ألوان، لوحات زيتية، لوحات بالإتشنج، أعمال نحتية، وأعمال من الأسلاك وخُردة الحديد.
ولم تكتف"بصمات" بتكريم التشكيلين فقط، لهذا وضعت على خارطة التكريم نجوم الفن السينمائي، والأدباء والشعراء، في محاولة منها للتقريب بين المبدعين على اختلاف بضاعة كل منهم، فمن الأسماء التي شرفت "بصمات" مشاركتهم لها الفنان/ نور الشريف، الفنان/ محمود حميدة، الفنان/ علاء قوقة، الفنانة/ سميحة أيوب، الفنانة/ سهير المرشدي، ومن الشعراء والأدباء: الشاعر/ أحمد سويلم، الشاعر/ سعيد شحاتة، الشاعر/ممدوح المتولي، الأديب/ خيري شلبي، الأديب/ جمال الغيطاني.
ولأن الهدف الأسمى لـ"بصمات" هو كسر العزلة القائمة بين الفنانين العرب، ومحاولة إيجاد ما يقرب بينهم، ويجمع بين أسمائهم كتاب واحد، تنقل البلقاسي بين عدد من الدول العربية، عارضا فيها أعماله، أو لإقامة ورش عمل لفن الحفر على الخشب، من هذه الدول: السعودية/ ليبيا/ المغرب/ لبنان/ اليمن/ تونس/ المغرب/ الجزائر، وفي الجزائر أُطلق على وحيد البلقاسي لقب "شيخ الحفارين" أطلقه عليه الراحل "عبد الحميد عروسي" رئيس الاتحاد الجزائري للثقافة والفنون، ولتوافق اللقب مع إمكانات المُلّقب به، إمكاناته الفنية التي تؤكدها أعماله المتميزة بين أبناء جيله، وإمكاناته التنظيمية في النهوض المستمر بما تقوم به "بصمات" في تنشيط الحركة التشكيلية، عربيا ومصريا، إذ يكفي أن نشاهد الحضور الجماهيري في كل عرض تشكيلي تنظمه إدارة الملتقى، حيث تكون ليلة الافتتاح أشبه بليلة من ليالي موالد العارفين، مما جعل البعض يطلقون على هذا التجمع الفني:"مولد البلقاسي"، ولأن لكل مولد شيخه، فقد تأكد أن البلقاسي هو شيخ للحفارين.
ثم كان أن اختمرت، في رأس الشيخ، فكرة "معرض في كتاب" وهي عبارة عن موسوعة فنية تُعرض فيها أعمال الفنانين من كل البلاد العربية، وتصاحب لوحات كل فنان قراءة تشكيلية، يكتبها البلقاسي لتقرّب، لمتصفح الموسوعة، قدرًا من الرؤية الفنية لكل فنان، وتتزين الموسوعة بما يمكن أن نسميه "ديوان شعر" حيث تتوزع لوحات شعرية عبر صفحات المجموعة.. التي صدر العدد الأول منها عام 2014م، والعدد الثاني عام 2018م، وتعمل "بصمات" الآن، وهي على أعتاب الاحتفال بالملتقى الفني رقم 20، على إصدار العدد الثالث من الموسوعة، ويقود العمل لإنجازها شيخ الحفارين، الفنان/ وحيد البلقاسي.
ممدوح المتولي
يونيه 2020م